السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سؤال وفقكم الله تعالى :
ما هو ضابط المسائل الإجتهادية التي لا يتطرق إليها تبديع المخالف ?
الجواب :
📍في البداية لا بد ان تعلم أن الإجتهاد في مسائل الخلاف لا يتصور أن يكون إلا عن دين وورع وعلم وتجرد للوصول إلى الهدى والحق ولذا فإنه لا يتفق مع هذه المعاني السامية وصف المعاند الغير مبالي بالحق حيث أن هواه أعز عليه من مواقعة الحقائق ، إذا فليس الكلام هنا على هذا الصنف من الناس بل لهم مقام آخر يفصل فيه أحوالهم وبها ينصف في أحكامهم أسأل الله تعالى العافية لنا ولكم
📍وأما المسائل الإجتهادية التي لا ينبغي إقحام التبديع على المختلفين فيها لاسيما من هم على الوصف المذكور آنفا فهي تلك المسائل التي تكون أدلتها غير ظاهرة على معاني الأقوال المختلفة فيها ظهورا يقطع النزاع عند أهل العلم بالشرع ولذا لم يرتبوا عليها إجماعا و منها صنف ليس على البطلان أو التصحيح دليل بل تكون تلك الأقوال المختلفة منشأها نوع من الإستنباط من فحوى خطاب أدلة الكتاب والسنة أي أنه رجوع غير صريح ومن ذلك كثير من المسائل الخلافية المبنية على أدلة مختلف في ثبوتها كأدوات للإستدلال كالقياس وعمل أهل المدينة وباب سد الذرائع ونحو ذلك ومنها ما منشأ الخلاف فيها راجع إلى عدم الإقرار بالإجماع المذكور في تلك المسألة المخصوصة لأنه في ذلك الموضع إجماع ظني الدلالة كالإجماع السكوتي مثلا !
وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية رحمه الله :
( ... والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه؛ فيسوغ إذا عدم ذلك فيها الاجتهاد لتعارض الأدلة المتقاربة أو خفاء الأدلة فيها، وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها" ا.هـ
(مختصر من الفتاوى الكبرى [3/160]).
📍وأنبه وأكرر مرة أخرى أنه لا مانع من التناصح و الإنكار العلمي في هذا
النوع من المسائل ولكنه نوع من الإنكار الذي لا يصل بصاحبه أن يفسق أو يبدع
مخالفه بل هو إنكار التصحيح والنصيحة وليس الإسقاط والفضيحة وذلك بتبيين ضعف قول
المخالف والخطأ في استنباطه ونحو ذلك لأن الإنكار عند أهل العلم درجات وكل درجة
معلقة بسببها والخلط في ذلك يسبب إشكالات كبيرة بين الدعاة إلى الله تعالى لأنه
يوقعهم بين مطرقة الغلو والظلم وسندان الميوعة والمداهنة ... وفي هذا المعنى يقول
إبن تيمية رحمه الله :
"وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل، أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً وجب إنكاره وفاقاً، *وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه* عند من يقول: المصيب واحد، وهم عامة السلف والفقهاء، *وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضاً بحسب درجات الإنكار... وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً،* وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس..إلى آخره).
📌 *فائدة أصولية مهمة :*
بعض المسائل الاجتهادية قد تصل بآحاد المجتهدين فيها إلى القطع بصواب قول من الأقوال فيها وذلك لأنه يرى من نفسه أنه قد وفا كل ما عليه تجاه تلك القضية باستكمال أدوات الاستقراء والنظر والإستنتاج فيصير ناتج ذلك عنده "دون غيره" قطعا لا مرية فيه بل يجب عليه شرعا أن يفتي به وأن يعمل بمفاده تدينا وعليه أن يعلم قبل ذلك أنه سيلقى ربه به .
ولكن حتى مع ذلك فإن قطعه لا يغير من الحقيقة العامة لتلك المسألة شيء لأنها وإن كانت كالقطع في حقه إلا أن هذا القطع هو قطع نسبي إضافي إلى حاله و مآله لأن أصلها و مازال مسألة إجتهادية يتطرقها الخلاف والنظر في حق غيره كما كانت قبل أن يقطع فيها ، ولذا فإن ذلك القطع في حقه لا يجيز له أن يلزم قوله الناس و يوجبه عليهم ولكنه ينصح ويوجه ويبين لما يعتقده دينا ناهيك أن يذم غيره بفسق أو تبديع أو تكفير من باب أنه خالفه فيما يراه "قطعيا" !
وإنما غاية ما ينبغي أن يصل إليه هو الإنكار العلمي كما تقدم وهذا واضح ، وفي هذا المعنى يقول إبن تيمية رحمه الله :
(..وما من الأئمة إلا من له أقوال وأفعال لا يتبع عليها مع أنه لا يذم عليها وأما الأقوال والأفعال التي لم يعلم قطعا مخالفتها للكتاب والسنة بل هي من موارد الاجتهاد التي تنازع فيها أهل العلم والإيمان؛ فهذه الأمور قد تكون قطعية عند بعض من بين الله له الحق فيها؛ لكنه لا يمكنه أن يلزم الناس بما بان له ولم يبن لهم .. )
والله أعلم