📌 تأصيلات تيمية وتقريرات علمية
ذكر الإمام ابن تيمية في إحدى مقالاته التأصيلية وأجوبته التفصيلية مقولة تكتب بماء الذهب تعكس وحدها رؤيته الثاقبة وخبرته الفائقة ، وذلك في معرض حديثه عن مفصل اعتقاد أهل السنة والجماعة في ثنايا مقارنة مختصرة بين أهل الحديث والأثر مع أهل الكلام والجدل فكان مما قاله رحمه الله
(وَإِنَّمَا فَضِيلَةُ أَحَدِهِمْ -أي أهل الكلام والجدل - بِاقْتِدَارِهِ عَلَى الِاعْتِرَاضِ وَالْقَدْحِ وَالْجَدَلِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الِاعْتِرَاضَ وَالْقَدْحَ لَيْسَ بِعِلْمِ وَلَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَأَحْسَنُ أَحْوَالِ صَاحِبِهِ: أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّيِّ وَإِنَّمَا الْعِلْمُ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ ) ..
📍أقول :
أراد بهذا التأصيل رحمه الله تقرير ماهية العلم ومسائله من إحدى جهاته العملية وهي جهة المآل والنتيجة فالعلم بوسائله وغاياته إنما يمدح في أصحابه متى ما عاد عليهم بالنفع .
📍 واعلم أنها متى ما كانت على هذا المنوال فلا بد أن تكون مقدماتها في غاية من الوضوح ونتائجها في غاية من الظهور وهذا السبيل فيها هو الذي أذن الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم به فيها لأنها لا تنفع إلا على هذا السبيل وحده دون غيره فقال عز من قائل
﴿فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا﴾
فكلما كانت تلك الوسائل الجدلية مظهرة لذلك الحق على نحو أحسن من غيرها كان مأذون بها شرعا وإلا فلا .. فقال عز من قائل:
( وَلَا تُجَـٰدِلُوۤا۟ أَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ منهم ) .
إذا هو باب مضيق لا يستعمل إلا على نحو يتيقن فيه من فائدته وإلا فالواجب تركه لما تتضمنه تلك الوسائل من وغر الصدور وحب الظهور وضياع الأوقات واضطراب الأفكار وحيرة الأذهان وغير ذلك من المساوئ بلا فائدة تذكر وذلك إذا ما استعملت على غير منوال الشرع فقصد الاعتراضات والقدح والردود لذاتها كما تقصد علوم الغاية حتى يتخيل الناظر أنها منها متجردة عن غايات الشرع ومقاصد الوضع لهو غاية في الخطل وتعمق في الزلل ناهيك عن بدعة الفكرة ونكبة النظرة .
ولو سلم المرء السالك لهذه الطريق الموحشة من تهوك النفوس بتحوير الأعراض النفسانية وجعلها باسم الشارع بامتهار الانتقام للنفس في قالب النقد والرد و الدفاع عن الدين لكان في أحسن أحواله أن يقال فيه عامي ضعيف الأهلية والتمييز ويا لها من منقصة فكيف لو لم يسلم من ذلك !
📌ثم بعد أن بين رحمه الله ماهية العلم الموهوم الذي يحوم في تخومه من جانب الصواب أخذ في بيان ماهية العلم النافع بكلمة مختصرة جمعت في مبناها معنى كبير لمن تفكر ، ويظهر مغزى كلامه بالضد وذلك أنه ميز العلم الموهوم الذي يقصده "العامي المركب" أي في متاهات الجدل ثم بين ماهية العلم النافع بأنه يؤول بصاحبه إلى جواب السؤال ، فقوله رحمه الله :
( وَإِنَّمَا الْعِلْمُ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ) أي إنما يظهر علم الرجال من خلال أجوبة السائلين إذ أن أجوبة تحل المشكلات والفتاوى التي تكشف المعضلات وتنوير السائلين تحمل في طياتها العلم والحكمة والإقدام والرحمة وحب الخير للغير وتسهيله وإبراز العلم في قالب الحاجة التي يقصدها الناس فيكون من خلالها الهدى والاستقامة على علم.
ولذا أمر الشارع المستفتي بالسؤال ونهى عن كتمان العلم .
وليعلم القارئ أن هذه عصارة خبرة رجل معدود أنه من أشهر الإسلاميين دفاعا عن السنن في وجه أساطين الفلاسفة والكلام والذين هم رؤوس الجدل والمعارضة ، والعجيب أن موروثه العلمي الغزير وأبحاثة الكثيرة التي منها ما لم يسبق له فيها نظير جلها مجموعة في قوالب السؤال والجواب رحمه الله.